بسم الله الرحمن الرحيم
-المقدمة-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أما بعد.
فلا يخفى على أحد أهمية علم الإعراب في توضيح المعنى الذي تنشده الآيات القرآنية، وبيان ما تقصده من دلالات، وقد نشأ هذا العلم وازدهرت مباحثه في كنف الحاجة إلى تفسير القرآن، وتوضيح معانيه وغريبه، ومن هنا تعدَّدت المصنفات قديما وحديثا لتحقيق هذا الغرض، وبعضها يكمل بعضها الآخر؛ فلكل مصنف مذاقه ووجهته التي هو مُوَلِّيها، ولا غنى لأحد عن أحد؛ لأن كلا منها يُعنى بجانب، أو يحلُّ مشكلا أو يثير مسائل علمية قد لا يثيرها غيره، بيد أنها اتفقت على العناية بإجلاء معاني كتاب الله.
وها هو الإمام مكي بن أبي طالب المتوفى سنة 437، يقول في مقدمة مشكله: "ورأيت من أعظم ما يجب على طالب علوم القرآن، الراغب في تجويد ألفاظه، وفهم معانيه، ومعرفة قراءاته ولغاته، وأفضل ما القارئ إليه محتاج، معرفة إعرابه والوقوف على تصرُّف حركاته وسواكنه؛ ليكون بذلك سالما من اللحن فيه، مستعينًا على إحكام اللفظ به، مطلعًا على المعاني التي قد تختلف باختلاف الحركات، متفهمًا لما أراد الله تبارك وتعالى به من عباده؛ إذ بمعرفة حقائق الإعراب تُعرف أكثر المعاني وينجلي الإشكال، وتظهر الفوائد، ويُفْهَم الخطاب، وتصحُّ معرفة حقيقة المراد".
ويأتي هذا العمل -إن شاء الله- بمنـزلة دلو من هذه الدلاء التي تحمل بعض الخصائص والميزات في طريقة توضيح مشكل الإعراب. وقد سرت وفق المنهج التالي:
1 - انتخبت من الآيات "المشكل" منها، وهو الذي قد تغمض معرفة إعرابه وإدراك توجيهه، أو يخالف في الظاهر قواعد النحاة ، ولكنه لدى التأمل والتحقيق يظهر لنا موافقتها. قال الجوهري في صحاحه: "أشكل الأمر: أي التبس"، وجاء في "الوسيط" : "الإشكال: الأمر يوجب التباسا في الفهم".
2 - حرصت على مطالعة مصنفات القوم في هذا الحقل؛ لكيلا أخرج عن اجتهادات علماء، كان لهم قَدَمُ صدق وجهد وفقه في فهم معاني القرآن العزيز.
3 - عُني هذا "المجتبى" بالمفردات، والجمل التي لها محل، والتي ليس لها محل، وأشباه الجمل من الظرف والجار والمجرور، وإن كان المقام لا يتسع للمرور بها جميعا، وتركت ذلك لكتابي الآخر "المفصَّل".
4 - يسير وفق ترتيب السور والآيات في المصحف الكريم، ويحافظ على رقمها، وفق "مصحف المدينة النبوية"؛ وذلك لتيسير العودة إلى المُشْكل المنشود من الآية.
5 - ينتخب العبارة السهلة المأنوسة التي تتضح لجلِّ طلبة العلم، ومن هنا بذلتُ الجهد في توضيح عبارات المعربين التي قد تحتاج في عصرنا إلى تذليل غامضها، والكشف عن مقصودها.
6 - اخترت وجهًا واحدًا في إعراب مفردات الآية أو جملها أو أشباه جملها، بَيْدَ أن هذا الوجه مما نصَّ عليه أحد علماء العربية بالتصريح أو الإشارة، أو القياس على قول صريح له في موضع آخر مماثل ، ويكون له صفة الوضوح والسيرورة.
7 - يُعنى هذا "المجتبى" بتوحيد إعراب النظائر، ما أمكن إلى ذلك سبيلا. فإذا كان موضع الإعراب في سورتَيْ الأعراف والتوبة مثلا من مشكاة واحدة، من حيث المعنى والصناعة، شملهما الإعراب بتوجيه واحد، وفي هذا جانب منهجي لا يخفى على أرباب الفن.
8 - عُنيت ببناء ضوابط عامة تفيد في كشف مشكل الآية المعينة وما يقاس عليها، إن كانت مفردات الضابط مشتركة.
9 - بلغ عدد الموارد التي عدت إليها أكثر من مئة مورد، بعضها أصيل في فنه، وبعضها مساعد كاشف، وذلك في ضوء عيش، وقراءة، وتأمل في مصنفات علوم العربية والتفسير وما يتصل بهما.
10 - يمثل هذا "المجتبى" الرأي المختار عندي من مجموع الآراء العلمية التي قيلت، ولا يعني هذا تضعيف غيره ، وإنما يعني اختياري الذي أذهب إليه، وهو ما رأيته موافقا للمعنى والصناعة.
أسأل الله سبحانه القبول والإخلاص، وأن يجعلنا مِنْ خَدَمة كتاب الله، الحريصين على مأدبته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المدينة المنورة
أ.د. أحمد بن محمد الخراط ، المستشار بالمجمع .